قراءة في فيلم قديم..

تقرير: "صياد اليمام".. المعالجة السينمائية تشوه النص الأدبي

نجيب محفوظ

هشام بن الشاوي

مثلما اشتهر نجيب محفوظ بحواري القاهرة، رغم أن بعض رواياته اختار لها الإسكندرية مسرح أحداث، فقد هام الكاتب والروائي الستيني إبراهيم عبد المجيد بفاتنة الكتاب والفنانين ومسقط رأسه أيضا : الإسكندرية، فخلدها بروايته الشهيرة :" لا أحد ينام في الإسكندرية"، وروايات أخرى من بينها  : "الصياد واليمام"، وبلغة شاعرية مرهفة، تستبطن أعماق النفس البشرية، يواصل بطل الرواية /صياد اليمام رحلته باحثا عن اليمام/عن الدفء/الحنان.. في يوم شتوي، فيكتشف - عبر السرد الحلمي الاستيهامي- أن كل ما هو موجود غير موجود، ويظل يطارد الأمل بأسى شفيف...



برع إبراهيم عبد المجيد - في الرواية طبعا- في وصف شتاء الإسكندرية، هذه المدينة التي ارتبطت في الأذهان كمصطاف.. يصور شتاء صباح قاس، في محطة القطار الخالية، والتي تحضر بقوة في معظم قصص وروايات عبد المجيد. الريح تعوي، والشمس سكنت في جوف السماء وأعطت ظهرها للأرض. هذه المتعة التي نصادفها في القراءة تجاهلتها الكاميرا : برد اليوم مختلف رغم أن الشتاء الطويل يأتي كل عام. إنه يعرف ذلك ولا يستغرب. من سبق أن استغرب لدوران السنين؟ وعربات السكك الحديدية الفارغة تبدو لصياد اليمام مثل "طابوري حزن". الرصيف خال، والعصافير قليلة وهو لا يصطادها.. "ربما حين غمر النور المدينة تعلق الناس بخيوطه الواهنة وصعدوا جميعا إلى السماء وهو بعد نائم مع زوجته. علمته العربات الصمت. علمه شتاء الإسكندرية الخشوع. كيف يكون الفرح في شتاء دافئ !؟ ".



ويكتب إبراهيم عبد المجيد عن قاع المدينة، ومعاناة العمال الوافدين : "وفي المقاهي الرخيصة السوداء، حيث تختزل الرجولة في ضربات أكف حامية فوق المناضد، بعد هزائم وانتصارات في الدومينو والورق ينسى أبناء الشمال الإسكندرية. يعطونها ظهورهم ويفتحون عيونهم على مدن جديدة. والإسكندرية الصغيرة الطويلة، ممتدة كامرأة نائمة ممشوقة لينة القوام، لها عجيزة مترهلة كثيفة الشعر والقمل. تعطي الإسكندرية أبناء الجنوب جنوبها حيث العفن في الشوارع المتربة الضيقة الموحلة والبيوت المكومة فوق بعضها. يرحل أبناء الشمال بعد أن يمصون لبن الضرع القوي ناصع الحمرة والبياض. تظل عجيزة الإسكندرية مسك الختام لأبناء الجنوب ".



صيد اليمام لم يكن سوى تسلية نصحه بها زميله (طلعت زكريا في الفيلم)، ولم يكن يعرف، من قبل، أن في الدنيا يماما، وإن سمع الكلمة ترددها أفواه الرجال واصفين بها النساء: "طالما تعيش وحدك مثلي لماذا لا تصطاد اليمام؟"، ويمضي رافعا عينيه وبندقيته مستعدا للتصويب في أي لحظة. ولا ييأس رغم أنه لم يصطد يمامة منذ خمسة أعوام. ليس اليمام -وحده- من اختفى، وإنما زميله، وقبله أمه، تلك الجنية الجميلة الوديعة، وكذلك "قمر" بائعة الشاي، والشرطي والعجوز صديق الثعابين، وهند جامعة حبوب القمح من أرصفة السكة الحديدية... خمس سنوات يمضي ببندقيته ومخلاته ولا يصطاد شيئا، ولا يفكر في أن يجرب تغيير المكان.



 ومن شخوص الرواية اللا تنسى.. الشرطي (يجسد دوره صلاح عبد الله) ، وربما - لأول مرة في تاريخ الرواية العربية-، يقدم لنا كاتب شخصية بغيضة بمثل هذه الحساسية والشجن. فالشرطي يشير إليه أن يجلس، ويفاجئه بأنه كان يراقبه كل هذه المدة، وذلك اليوم فقط يكلمه. الشرطي وحيد معزول، لا يغادر كشكه ويحتاج إلى من يكلمه.



 - "غريب أنك تصطاد هنا منذ أكثر من خمسة عشرة عاما ولا تعرف المنطقة.
-إنني أعرف الأرصفة وهذا يكفي.


وضحكا. فكر الشرطي قليلا وقال.


-حقا. هل تعرف أني مثلك لا أعرف غير هذا الكشك؟".


  ويخبره الشرطي برغبته في أن يستقيل، لأن مهنته لا معنى لها، وفي منطقة واسعة ومكشوفة كالتي بها، لا أحد سيسرق قطارا أو يجر عربة سكة حديد إلى المدينة "لماذا أجلس إذن هنا؟. ويتضح له أن المنطقة التي يراقبها تقل عاما عن عام، بسبب ضعف بصره. لكن صناع الفيلم شوهوا هذه الشخصية بإضفاء بعض توابل السينما عليها، حتى صارت نمطية...

    اليمام ليس سوى حنان الأم الفقيد، التي اختفت بعد أن تزوجها العم قسرًا... فيبحث عنها صياد اليمام في كل شيء، ويعجز عن أن يحب زوجته التي لا يعرف حتى اسمها، بينما في المعالجة السينمائية يتم تلفيق قصة حب بين صياد اليمام/أشرف عبد الباقي وسماح/علا غانم على غرار أفلام المقاولات التي تسند بطولتها إلى مراهقين، يتمتعون في أغلب الأحيان بـ "خفة الدم" أو بمعنى آخر التفاهة، فنراه يحاول سرقة إعجابها بأن يتشاجر مع نادل المقهى المقابل لبيتها، ثم يتنكر في هيئة الجابي عند رؤيتها بالترام .



   حين تظهر يمامة يفشل في إصابتها، (للأسف هذه اليمامة لم تظهر في الفيلم)، رغم أنه - في الرواية طبعا- أفلح في إصابة الثعبان الذي يتربص بالعصافير بمهارة، وكأن إبراهيم عبد المجيد بهذا الحدث (الانتقام للعصافير) يواسي البطل والقرّاء، بل ويفلسف الحدث وكذلك صيد اليمام متحدثا عن الظلم والعدالة... لكن في الفيلم لا نجد أثرا لشجرة التوت ولا للثعابين، وصديقها العجوز وكشكه، بل إننا سنحتار في أمر شخصية هذا العجوز.. هل هي شخصية البهلوان (علاء زينهم) الذي قابله سيد/ المراهق بعد قتل العم وهروبه من البيت، بغض النظر عن تمطيط الزمن الفيلمي، فنراه - سيد- بهلوانا فاشلا، ثم يعمل بائعا متجولا، مع أن الرواية تتحدث عن عجوز حاوِ، وشتان بين الحاوي والبهلوان... سيلفت انتباهنا أن كاتب السيناريو يفصل الأحداث والشخصيات حسب هواه، فشخصية العجوز طلبة شطرها إلى شخصيتين مختلفتين، متناقضتين وفاترتين معًا... أدى إحداهما لطفي لبيب، وهو يصطاد السمك - وهو الحاوي في الرواية-، والثانية هي الشخصية التي شخصها علاء زينهم؟ لكن الأغرب والمدهش هو اختراع شخصية المصور جورج، وهي غير موجودة بالنص الروائي، ونراه بنفس السن في أول الفيلم وآخره... وحين ذهب سيد للحانة، فهو سأل عن والد هند الذي اختفى، حتى يعيد إليها الإحساس بالأمان والأبوة، وليس بحثا عن صديقه الشقاوي (طلعت زكريا).. هذا التزوير يبدو غير مستساغ أبدا، رغم أننا قد نتفق مع كاتب السيناريو في إغفال بعض التفاصيل، مثل حكايا أصدقاء الحان واختفاء صديقهم الغامض، لأنها تبدو خارج السياق الدرامي للفيلم...


أما موت الطفل فيقدمه الروائي بشكل ملتبس وآسر، وليس كما اختصره الفيلم، حيث يلقى حتفه في حضور والديه.. يدهمه قطار، بعد أن جاء بصحبة أمه، وهي ترجو الأب/ صياد اليمام أن يعود معها إلى البيت. إبراهيم عبد المجيد تلاعب بمشاعر القراء من خلال اختفاء ابنه، وقدمه بشكل غامض، جعلنا نعتقد أنها مجرد كوابيس، ويبلغ المشهد ذروته - في الرواية طبعا- حين تسأله الزوجة: من يدفن الولد؟ ويتركها تندب، ويخرج للصيد، كعادته كل صباح... لكن الفيلم أغفل هذا المشهد الخارق، الذي كان سيتيح للممثليْن طاقة تعبيرية هائلة، مثلما تم إغفال المشهد ما قبل الأخير في الرواية، حيث تنقشع الظلمة وتنجلي الحقائق، وقبلها يتحدث الكاتب عن معرفة صياد اليمام - مثل اللص تماما- لطول العربة المظلمة من خلال الإصغاء إلى صدى خطواته فقط، وهذا مشهد صعب ترجمته للمشاهد بالكاميرا، وفي عربة القطار المظلمة المهجورة، يحس أن لا ملاذ أمامه سوى زوجته، التي تحملت قسوته وجفاءه...
    في حوار مع أشرف عبد الباقي أعلن تبرؤه من الفيلم، وبأنه لن ينسبه إلى رصيده الفني، ويرى بأن المسؤول الأول والأخير عن فشل الفيلم هو المخرج إسماعيل مراد، لكن لي رأي مخالف، فكاتب السيناريو علاء عزام يتحمل كل الفشل.. بدل تقديم مشاهد بصرية تترجم ثراء هذا النص الدرامي الباذخ، ولن نغالي إن اعتبرناه من الروايات العالمية، فقد كتب بطريقة باهرة... لكن الكاتب والمخرج لجآ إلى التقريرية والمباشرة، وربما هذا الشيء الوحيد الذي نقلوه من الرواية بأمانة، كقول بائعة الشاي قمر(بسمة) لصياد اليمام إنه "لا يرى إلا ما يريد.. اليمام". بعد أن انتبهت - وبعد خمسة عشر عاما- إلى نظرته، وتصارحه بحبها.. وهي في الرواية لا تأخذ مساحة كبيرة، بينما في الفيلم صرنا أمام فلاش- باك مطوّل يروى على لسان أحمد راتب (ماذا أضاف وجود الراوي/أحمد راتب، وهو يحلل بسذاجة ما لا يحتاج إلى تحليل أو حتى إلى سرد، مرددا ما تقوله أو مقررا ما تفعله الشخصيات؟)، ويبوح سيد لقمر/ للمشاهدين بأوجاعه وبأوجاع والديه من قبل، وهو الصموت الذي لا يبوح بأوجاعه لأحد. "كان يبذل جهدا كبيرا في أن يمضي أيامه في صمت. يطرد كل هاجس ألم. كان يعرف أنه لو تكلم. سيحكي ويشكو والوجوه حوله متعبة"، كما جاء في الرواية.


لقد جعل إبراهيم عبد المجيد صيد اليمام معادلا موضوعيا وجماليا للبحث عن الدفء والحب والحياة الكريمة، لكن الفيلم عوّض صيد اليمام بصيد النساء، ورأينا أشرف عبد الباقي "دون جوان" يتنقل من حضن الأم (دنيا) إلى سماح (علا غانم) إلى هند (حنان كرم مطاوع، التي جسدت أجمل دور نسائي بالفيلم، بأداء شاعري يناسب براءة ملامحها)، ثم قمر(بسمة، التي لم يحبها حبا جسديا، وإن اشتهى في الرواية أن ينام على صدرها). لكن أسوأ ما في الفيلم تلك العلاقة غير المشروعة التي تجمع بين الشرطي (صلاح عبدالله) ووالدة هند (سلوى عثمان، في دور جريء يختلف عن أدوراها السابقة، لكنه نمطي سينمائيا)، فهما يبحثان عن الخلاص من خلال علاقة جسدية بلا حب.. للهروب من الواقع المرير، مما قد يكرس لدى المشاهدين فكرة مشوّهة.. بأن هذه الطبقات المسحوقة لا يشغلها إلا الجنس والخيانة، وهو تسطيح للمعالجة الدرامية، بدل ملامسة جراح الأعماق وتحليل الحدث.. على طريقة المخرج- الفلتة خالد يوسف، والذي- للأسف- لا أتحمل أن أشاهد أي فيلم له أكثر من خمس دقائق، وأحيانا أكتفي بقراءة ما يكتب عنه فقط، وكفى الله المؤمنين شر القتال، بينما عاشق الإسكندرية (إبراهيم عبد المجيد) يتابع شخصياته وهي تبحث/تطارد الأمل الأبتر في زمن الحزن الشفيف السرمدي، ذلك الحزن المقيم في القلوب الكسيرة.
هذا الفيلم سيطرح مرة أخرى، وبشكل جاد للنقاش العلاقة بين السينما والأدب، فالرواية تجريبية وليست كباقي روايات إحسان عبد القدوس أو يوسف السباعي، ولن نصادر رأي أحد إن كتبنا بأنها لا تنفع للاقتباس، ولا ينفع استسهال صنّاع السينما التعامل مع شبيهاتها.. كثيرون انتقدوا الفيلم، لأنهم اعتبروه غامضا مثل أفلام يوسف شاهين، والبعض تصيدوا أخطاءه التقنية والإخراجية، ولا أظنهم اطلعوا على الرواية، في حين أعتبر نفسي الأسوأ حظا، لأنني قرأت الرواية وشاهدت الفيلم، لذا حاولت التركيز على أحداثهما وشخوصهما قدر الإمكان.