اتساع هوة الشعبوية والقومية والحمائية التجارية..

تقرير: هل تقدر القوى المتوسطة على إنقاذ النظام العالمي؟

النظام الليبرالي العالمي يتهاوى والقوى المتوسطة لا تملك سوى إبطاء انهياره

واشنطن

في مؤتمر صحافي مشترك نظّم بتاريخ 2 أبريل 2019، أعلن وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، ونظيره الفرنسي جان إيف لودريان أنهما سيطلقان “تحالف أنصار التعددية” لتعزيز التعاون الدولي خلال الدورة 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر القادم. وقال الوزيران إن التحالف ضروري “لحماية المعايير والاتفاقيات والمؤسسات الدولية” في مواجهة الضغوط العالمية.

وناقش ماس ولودريان اقتراحهما مع ممثلين من الأرجنتين وأستراليا وكندا والاتحاد الأوروبي والهند وإندونيسيا واليابان والمكسيك والنرويج وجنوب أفريقيا وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة. ويشار إلى هذه الدول بالقوى المتوسّطة. واستفادت هذه القوى، وأغلبها قوى اقتصادية صاعدة، من النظام الليبرالي كثيرا، وهي ستكون من أكبر الخاسرين في حال انهار هذا النظام، لذلك تتجه إليها الأنظار علّها تستطيع إنقاذ هذا النظام.

فمع وجود قوى كبرى مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة الأميركية، التي تساهم كل واحدة منها في تفتيت أسس النظام الدولي الليبرالي، وجدت القوى المتوسطة نفسها مسؤولة على الحفاظ على بعض عناصر النظام الأساسية وإصلاحها. لكن، في حين لا تستطيع هذه القوى منع تفكّك النظام الدولي الليبرالي بمفردها، إلا أنها تستطيع إبطاء العملية.

وترصد دراسة نشرها الملكي البريطاني للسياسات الخارجية “تشاتام هاوس″ دور القوى المتوسطة في النظام الليبرالي العالمي وإلى أي مدى يمكن أن تنقذه، مشيرة إلى أنه حان الوقت لتحول هذه البلدان تحذيراتها من خطر تدهور النظام العالمي الليبرالي إلى أعمال منسّقة. وتعتبر الدراسة أن “تحالف أنصار التعددية” يأتي في سياق هذه الخطوات العملية التي يجب أن تترجم فعلا على أرض الواقع.

مع وجود قوى كبرى تساهم في تفتيت أسس النظام الليبرالي، تجد القوى المتوسطة نفسها مسؤولة على الحفاظ على هذا النظام

وفكرة تحالف أنصار التعددية ليست الدعوة الأولى للدول المتوسطة إلى تحمل مسؤولية أكبر في الحفاظ على النظام العالمي الليبرالي، والذي يعرّف على أنه شبكة المؤسسات والاتفاقيات والقواعد متعددة الأطراف التي دعمت نظاما دوليا مستقرا ومنفتحا لعقود. فقد وجّه سياسيون ومحللون دوليون بارزون نداءات مماثلة. واقترح المحلل السياسي في صحيفة فاينانشال تايمز، جدعون راشمان، “تحالف القوى المتوسطة” من أجل “الحفاظ على عالم قائم على القواعد والحقوق، بدلا من السلطة والقوة”.

ودعا الزميل في معهد بروكينغز بواشنطن إيفو دالدر، ومدير الدراسات في معهد العلاقات الخارجية بنيويورك جيمس ليندساي حلفاء الولايات المتحدة إلى “تعزيز قوتهم الاقتصادية والعسكرية الجماعية لإنقاذ النظام العالمي الليبرالي”. وتبدو العديد من القوى المتوسطة مهتمة باتخاذ المزيد من الإجراءات. فبالإضافة إلى الاقتراح الفرنسي الألماني بشأن “تحالف أنصار التعددية”، عبّر رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي في أوائل السنة الحالية عن نيّة بلاده “الحفاظ على نظام دولي حر مفتوح قائم على القواعد”.

وتحمل هذه القوى مصلحة واضحة في الحفاظ على هذا النظام، لأنه يحميها من عدم الاستقرار النظامي، ومن سياسات القوى العظمى غير المقيّدة. ولحماية مصالحها، تحتاج إلى تحديد أولوياتها، وتجميع ائتلافات خاصة بقضايا محددة وإعطائها أهدافا واضحة وتنسيق جهودها بفعالية.

تحالف أنصار التعددية

استشرف الكاتب الأميركي ريتشارد هاس صاحب كتاب “عالم في حالة من الفوضى: السياسة الخارجية الأميركية وأزمة النظام القديم”، هذا الانهيار، مشيرا إلى أن التهديد الحالي للنظام الليبرالي العالمي لا يأتي من الدول المارقة أو الأنظمة الشمولية أو المتعصّبين الدينيين أو الحكومات الظلامية (المصطلحات الخاصة المستخدمة من قبل الليبراليين عند الإشارة إلى دول لم تتّبع مسار التطور الرأسمالي الغربي)، ولكن من مهندسها الأساسي الولايات المتحدة.

ويقول هاس إن الليبرالية في تراجع بعد تزايد النزعة الشعبوية وحصول الأحزاب السياسية المتطرفة في أوروبا على قاعدة قوية، حيث يشهد التصويت في المملكة المتحدة لصالح ترك الاتحاد الأوروبي على فقدان النخب الليبرالية للنفوذ وحتى الولايات المتحدة تشهد هجمات غير مسبوقة من رئيسها على وسائل الإعلام والمحاكم ومؤسسات إنفاذ القانون في البلاد. ويؤكد “نحن نشهد ظهور منظومات إقليمية (أي غير ليبرالية) لأن محاولات بناء أطر العمل العالمية فشلت”.

وتصاعدت التحديات التي تواجه النظام الدولي في الآونة الأخيرة من الصين وروسيا وغيرهما، مثل ترامب الذي تبنى شعار “أميركا أولا” لينبذ دور بلاده الطويل، إذ ارتبطت استراتيجية الولايات المتحدة الكبرى منذ 1945 بتعزيز النظام والحفاظ على المصالح الوطنية الأميركية في إطار نظام متعدد الأطراف.

ومن بين إجراءات أخرى، وصف ترامب الاتحاد الأوروبي بأنه “عدو”، وأوقف تعيين القضاة في لجان تسوية المنازعات التابعة لمنظمة التجارة العالمية، وانسحب من سلسلة من المعاهدات الدولية كالشراكة العابرة للمحيط الهادئ واتفاق باريس للمناخ والاتفاق العالمي للهجرة والاتفاق النووي الإيراني والبروتوكول الاختياري لتسوية النزاعات الملحق باتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، وهدد بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، وناقش الانسحاب من الناتو.

وفي الوقت نفسه، أصبحت تحديات الصين وروسيا للقواعد والمعايير الدولية أكثر وضوحا وجرأة بعد أن أصبح غزو روسيا لأوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم حقيقة في السنوات الأخيرة. وفي مثال آخر، قضت محكمة تحكيم دولية في لاهاي بأن الصين لا تملك حقا تاريخيا في مياه بحر الصين الجنوبي وأنها انتهكت حقوق الفلبين السيادية بأعمالها هناك. وتجاهلت الصين الحكم وقالت إن قواتها المسلحة ستحمي سيادتها الوطنية ومصالحها البحرية، واستمرت في بناء وعسكرة الجزر في المواقع المتنازع عليها.

لكن، ليست هذه السياسيات وحدها السبب في انهيار النظام العالمي الليبرالي، بل هي تأتي مدعومة بضعف احترام القانون الإنساني الدولي وتتدهور أنظمة الحد من الأسلحة وتعرض النظام التجاري متعدد الأطراف لخطر الانهيار وتراجع الديمقراطية وحقوق الإنسان في أجزاء متعددة من العالم.

القوى المتوسطة وجدت نفسها مسؤولة على الحفاظ على بعض عناصر النظام الأساسية وإصلاحها مع وجود قوى كبرى مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة الأميركية التي تساهم كل واحدة منها في تفتيت أسس النظام الدولي الليبرالي

وفي مواجهة مثل هذه التحديات، يتساءل خبراء تشاتام هاوس: ما الذي تستطيع القوى المتوسطة أن تفعله؟، ليجيبوا مشيرين إلى أن فكرة “إنقاذ القوى المتوسطة للنظام العالمي الليبرالي” غير واقعية. إذ لا يمكن أن يتواصل أي نظام من المؤسسات والقواعد الدولية لفترة طويلة دون دعم من عناصره الأقوى. وعلاوة على ذلك، لا يقتصر التحدي على الحفاظ على العناصر الرئيسية للنظام الحالي فحسب، بل يمتد إلى إصلاح المؤسسات المتهاوية، ووضع قواعد جديدة للسياسات الناشئة، وتكييف النظام متعدد الأطراف ليتناسب مع مشهد القوة العالمية المتغيّرة بدلا من إبقائه مرتكزا على المشهد العالمي الذي انبثق إثر نهاية الحرب العالمية الثانية أين تشكّلت مؤسساته المركزية.مع ذلك، يؤكد الخبراء على أنه لا ينبغي التقليل من شأن مدى تأثير القوى المتوسطة مجتمعة. وعلى سبيل المثال، تمثل اليابان وألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا وكندا وكوريا الجنوبية وأستراليا معا أكثر من خمس الاقتصاد العالمي. وإذا عملت هذه البلدان وغيرها في حملة متضافرة، فقد تنجح في إبطاء انهيار النظام الحالي، وتقوية وتحديث أجزاء منه.

وتشير الدراسة إلى أن الأمر يستحق المحاولة ويجب أن تحوّل القوى المتوسطة دورها من مجرد التعبير عن قلقها إلى العمل المتضافر على نطاق يتناسب مع خطورة الأزمات التي تواجه النظام الدولي الليبرالي. ويمكن لهذه القوى إعطاء الأولوية لتحديث نظام الهجرة الدولي، ووضع قواعد جديدة للأمن السيبراني الدولي، والتمسك بمعايير محددة ضد الاغتيالات وعمليات الاختطاف و”دبلوماسية الرهائن” التي تعتمدها الدول. كما يمكنها أن تشغّل دورا حيويا في إنقاذ النظام التجاري متعدد الأطراف ومكافحة تغيّر المناخ.

تدهور بنية المؤسسات

فهمت الأجيال السابقة ضرورة وجود نظام دولي قائم على القواعد، فقد عانت من حروب كارثية، لاسيما تلك التي انتهت في 1815 و1918 و1945. وعلى الرغم من عدم احتمال نشوب حرب بين القوى العظمى في المستقبل القريب، إلا أن بنية المؤسسات والقواعد والمعايير التي أسست بعد الحرب العالمية الثانية والتي بقيت مستقرة لعقود ظلت تتدهور. كما ينهار النظام التجاري العالمي المفتوح بوتيرة أسرع مما توقع المحللون.

ويتزامن هذا الانهيار مع تهوّر بعض القوى العالمية والإقليمية، وهو أمر مقلق. وتساعد متانة المؤسسات وضبط النفس على حماية النظام الدولي. وفي غياب هذه الأساسيات، يمكن أن تتحول الأزمات المنعزلة إلى مواجهات أكبر. وتدعو دراسة تشاتام هاوس مختلف القوى إلى مراجعة التاريخ واستخلاص العبر منه. وتطرح كمثال عن الوضع الأوروبي في أوائل سنة 1910، قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، عندما لم يهتم القادة الوطنيون بمعالجة أسس الاستقرار القاري المضمحلّة وفشلوا في إدراك آثار تهورهم المدمّرة.

ولا يملك قادة اليوم عذرا، إذ يصوّر لهم التاريخ نتيجة تصرفاتهم ومستقبلهم. وحذرت العديد من القوى المتوسطة من أخطار تدهور النظام الدولي الليبرالي. علاوة على ذلك، حان الوقت لتحوّل هذه البلدان تحذيراتها إلى عمل متضافر. وتحتاج القوى المتوسطة إلى إطلاق حملة لدعم وإصلاح مختلف زوايا النظام الدولي الرئيسية، وتنظيم جهودها. ولا شك أن المهمّة شاقة، ويبقى نجاحها غير مضمون. فقد تكون نتائج هذه الحملة غير متسقة وفوضوية، لكنها لا تحتاج إلى أن تكون مثالية، “إذ يكمن الهدف في إنقاذ العالم من الجحيم وليس إيصاله إلى الجنة”، كما كان الأمين العام السابق للأمم المتحدة داغ همرشولد يقول.