د. أسماء أحمد الشقري تكتب لـ(اليوم الثامن):

حق تقرير مصير الشعوب

الخرطوم

 إنّ ممارسة حق تقرير المصير، يكون بطريقة سلمية، بينما يلجأ شعب ما، للعنف فقط، إذا فشل تمكينه من التعبير عن رغباته بالوسائل الديمقراطية.
  قانونياً توسعت آليات تقرير المصير لتشمل حقوق الأنسان والشعوب بما فيها الشعوب المقهورة او تلك التي تطمح لتقرير مصيرها ،إذا تنص المادة (20) من ميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب على أن: "لكل شعب الحق في الوجود، ولكل شعب حق مطلق وثابت في تقرير مصيره، وله أن يحدد بحرية وضعة السياسي، وأن يكفل تنميته الاقتصادية و الاجتماعية، على النحو الذي يختار بمحض إرادته للشعوب المستعمرة المقهورة الحق في أن تحرر نفسها من أغلال السيطرة وباللجوء إلى الوسائل، كافة التي يعترف بها المجتمع".
    إن استمرار أعمال الكفاح المسلح بشكل عام يمثل خطراً على السلم والأمن  الدوليين : لذا فأن إيجاد الحلول السلمية هي من صميم اختصاص الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية من أجل إنهاء الصراعات الاثنية بما يتماشى مع المادة (55) من ميثاق الأمم المتحدة .
 أورد تقرير لجنة الخبراء القانون الدولي حول مسألة العنف الذي يصاحب المطالبة بتقرير المصير بأنه " في أغلب الأحيان ليس تأكيد الحق في تقرير المصير من قبل الشعوب المضطهدة هو الذي يقود إلى نشوب أعمال النزاع المسلح ".
إن البديل لاستفتاء خيار الشعب يعيش في إقليم تحت الاحتلال أو الاستعمار أو يعاني 
التهميش بين الأغلبية يقود لتنامي نفوذ الداعين إلى العنف إذا إنه "أحد مظاهر التعبير عن الصراع "، في مقاومة صريحة تنتهي بالتفاوض والحل السلمي .
يهدف تقرير المصير للحصول على عدة غايات مثل المطالبة بالحكم الذاتي: أي يحكم 
الإقليم نفسه في إطار تلك الدولة. بمعنى أنها دولة مركبة ،للإقليم المنادي بالاستقلال تكوين إدارته المستقلة سواء في الإطار الفيدرالي أو الكونفدرالي حيث تظل سيادة الدولة في هذه الحالة مركبة.
ينظم المبدأ السادس من المرفق لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 1541 بشأن تحديد الخيارات الثلاث لممارسة تقرير المصير . مآلات ممارسة تقرير المصير بالخروج بإحدى النتائج التالية: إذ يجوز القول بنيل إقليم غير متمتع بالحكم الذاتي قسطاً كاملا منه :
1- يصير دولة مستقلة ذات سيادة .
2- أو بدخوله الحر في رابطة مع دولة مستقلة.
3- أو بالاندماج مع دولة مستقلة .
وقد يتبادر إلى الذهن أن تقرير المصير يقود إلى الاستقلال عن الدولة الأم ، وذلك لترادف مصطلح تقرير المصير مع الانفصال، لذا يوصف المنادون بتقرير المصير دوماً بالانفصاليين، إلا أن  الواقع أنه لا تعني فرضية إقامة الاستفتاء على تقرير المصير حصرياً الاستقلال ، فقد يختار الشعب أي خيارات أخرى .
شروط  صحة ممارسة الحق في تقرير المصير:
  الاشتراطات الاجرائية لصحة تقرير المصير كما في القانون الدولي هي إشكالات الهيمنة السياسية الدولية على القرار الدولي، كما استفتاء كوسوفو لتقرير المصير فإنه لم يحظَ بمباركة الدولة الأم، مما جعله معيباً من الناحية الإجرائية . وقد اقتضت مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وحليفاتها  الاعتراف بكوسوفو دولة "مستقلة"، بينما عارضت صربيا وروسيا ذلك، إلا أن محكمة العدل الدولية لم ترَ الأمر مخالفاً للقانون الدولي أو قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1244 لعام 1999م، أو حتى الإطار الدستوري بالحكم الإقليمي بدستور صربيا.
  إن استقلال كوسوفو وما صاحبه من تداعيات لم يوجد قاعدة قانونية جديدة متوافقاً عليها، إنما أدخل التسييس في القانون الدولي، على الرغم من أن القانون الدولي لا يمنع إعلان الاستقلال لأي شعب.
ولقد أتى الاستفتاء في إقليم دونتسيك وانفصاله عن أوكرانيا بحماية سياسية وعسكرية روسية على النسق الأمريكي في كوسوفو، ولقد فرض أمراً واقعاً بالرغم من أنه تم تحت احتلال أو نفوذ عسكري روسي، مما يسهل الاستنتاج بأن منطق القوة لا يزال يحكم النظام القانوني الدولي .  

تجربة جنوب السودان: يمكن تكييف تجربة جنوب السودان في إجراء استفتاء حق تقرير المصير بأنها نوع من الاحتجاج على المظلومية والتهميش التنموي والسياسي والتميز الاجتماعي والديني، ذلك لأن موضوع النزاع مع حكومات السودان تمحور حول السلطة والهوية والحرية الدينية.
وقد سبقت عملية تضمين تقرير المصير في جدول أعمال المفاوضات التي جرت بين الحكومات السودانية وجماعات المعارضة المسلحة في شمال البلاد وجنوبها جهود مضنية ،من ذلك مثلاً ما قامت به الحركة الشعبية لتحرير السودان من حوارات مطولة مع فرقاء السياسة في الجنوب لتوحيد الصف الجنوبي عام 1993م .والجهود الكبيرة التي بُذلت في مؤتمر أسمرة للقضايا المصيرية 1995م.
واتفاق مسودة للسلام 1996موالخرطوم للسلام 1997م، وصولا إلى تضمين حكومة السودان حق تقرير المصير في دستور البلاد المؤقت الصادر عام 1998م.
لقد اتفقت حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان على القبول بإعلان نيروبي للمبادئ الصادر عام 1996م، والذي حدد مسيرة التفاوض بإحدى  صيغتين ، هما:فصل الدين عن الدولة او حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وقامت الوساطة بتقنينها بعد جهود مضنية لاتفاق سلام وقع عام 2005م في نيفاشا بكينيا .
من الناحية الإقليمية كانت المخاوف قائمة من عرقلة مصر مُضي جنوب السودان نحو حق تقرير المصير بسبب مخاوفها من زيادة عدد دول حوض النيل ، لكن ممثلي جنوب السودان قاموا بتهدئة المخاوف المصرية من خلال زيارات متعددة لعدد من الوفود  أشهر ها الزيارة التاريخية للدكتور جون قرنق ، القائد العام للجيش الشعبي ، والذي التقى فيه قيادات الدولة المصرية ومثقفيها .
ولم تكن فكرة تقرير المصير غريبة أو مخيفة لبقية دول الإقليم، إذ أن أحدث دول الإقليم وهي إرتيريا قد انضمت لمنظمة الإيفاد بعد أن مارست حقها في تقرير المصير  في 1993 ، كما أن المتغيرات الداخلية في الإقليم اعترفت بحق الشعوب في تقرير مصيرها مثل الفيدرالية الإثنية بدستور إثيوبيا، وقد أقر السودان تقرير المصير بدستوره عام 1998م، وقد تضمن الاتفاق فترة انتقالية مدتها سته أعوام ، تنتهي باستفتاء جري في عام 2011م ، وقد سُئل شعب جنوب إذا كان يرغب في الاستقلال أو البقاء في الدولة السودانية بذات ترتيبات الحكم الذاتي الموسع وبرعاية الأمم المتحدة ،ومضت تجربة الاستفتاء جنوب السودان سلسلة بمراقبة دولية واسعة ، ثم تبعتها ديباجات تصف الاستفتاء بالتاريخي وأخرى بأنها كانت شفافة ونزيهة ، وانتهت بإعلان نتيجة الاستفتاء التي ناهزت 99.8 % لصالح الانفصال  عن السودان وتكوين دولة منفصلة .
وقد تبع إعلان نتيجة استفتاء جنوب السودان، اعتراف حكومة السودان به، ثم تلاه اعتراف آخر منها في ذات العام باستقلال جنوب السودان ،وقد ساعد ذلك في اعتراف بقية دول العالم بجنوب السودان  دولة "مستقلة" وإكسابها الكينونة القانونية ،وكل ذلك نتيجة صحة الإجراءات التي اتُبعت على مدى سنوات متعاقبة ، بإضافة إلى القبول الإقليمي والدولي .