ملحم سلمان يكتب:

التحرر من" التحليل المذهبي" شرط اساسي لبقاء لبنان الوطن

إنّ تشتت المعارضات في لبنان وعدم التوافق على عقد اجتماعي مدني، يعزز  الآن اهل النظام ويكرّس المذهبية والفساد ويساهم في تفكك البلد. فلا خلاف حول حقيقة الأنهيار الاقتصادي والاجتماعي وحقيقة انهيار مؤسسات الدولة وفشل النظام على مختلف الاصعد، إلاّ في استمراره بالنهب وانقاذ زعماء الكونفدرالية الطائفية والمصارف من المسؤولية والمحاسبة.

إنّ الاختلاف في المواقف بين اللبنانيين، هي مواقف متأثرة بالارتباطات الإقليمية والدولية، و في اغلب الاحيان تدار مباشرة من دول المنطقة ومن الولايات المتحدة. ويساعد النظام في افشال المحاولات المتواضعة لبلورة رؤية سليمة لبناء مجتمع مدني عادل متفاعل مع بيئته العربية الطبيعية. ولنقولها بوضوح أنّ لا حياة للبنان إلاّ من خلال فصل الدين عن الدولة واقامة مجتمع مدني يحدد معالمه عقد اجتماعي مدني منفتح واسقاط هذا النظام الفاسد المفسد الذي سجن المواطن في سجن وعبودية المذهبية السياسية.

لا يمكن للبنان بوضعه الحالي ان يستمر بدون توافق وطني على ابسط المسلمات حول ديمقراطية يشارك فيها الجميع على اساس فردي، نساءً ورجالاً، وليس على اساس مذهبي. وهذا غير ممكن حدوثه بدون ادراك عموم اللبنانيين بأنّ النظام الحالي هو نظام تفرقة عنصرية ومذهبية بينهم، وبأنّ مقومات المجتمع اللبناني الاقتصادية الانتاجية والثقافية والعلمية والابداعية هي اسيرة هذا النظام ويجب اطلاق سراحها من خلال تغيير طبيعة النظام الحالي.

ويجب ان نعترف بأنّ الحركات التكفيرية المجرمة في المحيط العربي قد ساهمت في التقوقع الحاصل في المنطقة على اسس عرقية ومذهبية، وبأنّ القوى نفسها التي زرعت اسرائيل في ارضنا، تزرع أيضا الفتنة والاقتتال فيما بيننا.

إنّ تمزيق النسيج الوطني بواسطة التكفيريين هو خطر يوازي خطر العدو الإسرائيلي وربما يفوقه أيضاً. هذه حقيقة لم تعطها المعارضات العربية الأهمية الكافية، ولم تقم بمجهود كاف للتعامل مع حالات التقوقع والخوف المبرر الذي تسلل الى نفوس الأقليات الإثنية والمذهبية.

كما يجب ان نعترف بالنتائج المدمرة لمساهمة الانظمة المرتبطة بالمصالح البترولية، وسلاحها المال والجهل، في بثّ مفاهيم إسلامية متحجرة  دخيلة على كافة مبادئ وتعاليم الإسلام واخلاقياته، كما اشعلت بذور التفرقة والكراهية وحجّمت دور  المرأة التي هي نصف المجتمع. 

كذلك، فإن مساهمة الدكتاتوريات العسكرية القمعية في دفن الحريات وحقوق المواطن الاقتصاديه والسياسية والاجتماعية، رغم كل الشعارات التقدمية، اجهضت العمل السياسي الديمقراطي، وهو اهم شروط المحاسبة ومحاربة الفساد، وهو السبيل الافضل لبناء مجتمع مدني منتج عادل يحترم التعددية ويؤمن بالوسطية التقدمية. 

إنّ العوامل الاقليمية و الدولية، اثّرت وستؤثر على صيغة وصورة مستقبل لبنان كما نعرفه لكن هذا لا يعني تقليل مسؤولية وتأثير العامل الداخلي. فغياب التوافق، والاختلاف على معنى الهوية الوطنية، ونتائج حكم كونفدراليات المذاهب ودويلات المصارف والمؤسسات المذهبية، قد افقد اللبناني امكانية المشاركة في صقل مستقبله، بل اذلّه وافقره أيضاً.

ان تفكيك لبنان كما نعرفه هو من اهم المطالب الاسرائيلية بسبب امكاناته في المنافسة مع إسرائيل في مرحلة التطبيع المهرول نحونا بصور متعددة ومختلفة. لذا نهبت المصارف اللبنانية وجرى نسف مرفأ بيروت، وانهارت البنى التحتية ومؤسسات عديدة... لكن مع استمرار اهل النظام في خذلان المواطن وفي نهب الوطن!.

 وبغض النظر عن حصار مؤلم لا شرعي تفرضه الولايات المتحدة وحلفاؤها على سوريا ولبنان، اتت حكومة جديدة لحماية اهل النظام من المحاسبة ومن محاولات فك الحصار الظالم على لبنان. كل هذا يحدث ونجد فئات من اللبنانيين تساهم في شيطنة المقاومة، آخر حاجز امام هيمنة العدو الإسرائيلي على وطننا.

ان المقاومة التي حررت لبنان من الاحتلال لا يمكن ان تتعزز مصداقيتها ان هي شاركت في حماية الفاسدين، وقد تمنيت في كتابات سابقة ان تتبنى المقاومة حركة تغيير تقدمية مدنية جامعة لتحرير لبنان سياسياً كما ساهمت عسكرياً في تحرير اراضيه.

آن لنا ان نُحمّل المعارضات المتعددة مسؤولية فشلها في ايجاد جبهة وطنية مدنية  تتعدى المشاركات الانتخابية من خلال قانون وجد أصلاً لتعزيز قبضة النظام على مقومات البلد. إن الخدمة التي تقدمها اغلب المعارضات، فيما عدا العقائدية منها، هي ازدواجية المواقف وتعارضها مع اهداف المعارضات المعلنة، كمثل مهاجمة حاكم البنك المركزي المبررة والسكوت عن من يحميه!. فهي قناعات خاطئة بامكانية التغيير الجذري من خلال (وبالتعاون) مع المستفيدين من النظام الحالي من احزاب  ومسؤولين حاليين.

 ان وضع المعارضة اللبنانية يعكس مدى التلوث الذي فتك في المواطن من خلال الانظمة التربوية المتناقضة والمحصنة في الدستور، هذه الانظمة التي افرزت اجيالا بقناعات متناقضة تنعكس على غياب الاتفاق حول أي صيغة مستقبلية قابلة للحياة. والجدير بالذكر انه خلال مؤتمر الطائف لم يُجمع المشاركون إلاّ على صيانة "حق المذاهب" بأنظمتها التربوية المتضاربة الهوية والمكرسة في الدستور!!.

 هذه الحقائق تفسر عدم الاتفاق على نوعية النظام المدني البديل وعلى تردد بعض المعارضات في البوح علناً بحتمية التغيير الشامل وبنوع النظام البديل.

في هكذا اجواء من ضبابية الرؤى وغياب جامع والتزام مشترك حول ضرورة التغيير الجذري ومعالمه، سيبقى لبنان يتخبط بانتظار التحولات الإقليمية القادمة، كما سيفقد بقايا استقلاليته. والقادم كما هو منتظر لن يكون في مصلحة الغائب الضعيف!.

عامل واحد داخلي لا يمكن الاستمرار في تجاهله هو التغييرات الديمغرافية الواضحة إن كان في عدد السكان أو في الاعداد الضخمة من السوريين الوافدين والمستثمرين، أو في جهود الغرب لتوطين الاخوة الفلسطنيين بلبنان في محاولة لطمس الحق الفلسطيني بالعودة وبالدولة الفلسطينية المستقلة.

وكالعادة في لبنان، كل فريق له فتاوى مختلفة في مسبباتها و"اخطارها"!! وعلى حسب توازن التوزيعات المذهبية الحالية الهشة. لذا التحرر من" التحليل المذهبي"، رغم صعوبته، شرط اساسي لبقاء لبنان الوطن الذي قدم الكثير للعالم وللحضارة رغم فساد نظامه!.